حكواتيّة رغم كورونا | شهادة

دينيس أسعد خلال أحد العروض

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

هل كورونا (Covid-19) نقمة أو نعمة بالنسبة إلى فنّ الحكي؟ وهل إذا استمرّت فستقضي على هذا الفنّ بصورته التقليديّة، خاصّة أنّه يعتمد التواصل البصريّ والحسّيّ المباشر بين الحكواتي وجمهوره؟

 

تأنيث غير المؤنّث

"كان يا ما كان..."، الجملة السحريّة الّتي كانت منذ فجر الإنسانيّة تنقل المستمعين والمستمعات إلى عالم الحكايات السحريّ، ما زال لها نفس الأثر في قلوب البشر، وعلى الرغم من التطوّر التكنولوجيّ في زمننا المعاصر فإنّنا نرى - خاصّة في الغرب، ومنذ عقود عدّة - عودة الحكاية الشعبيّة لتأخذ مكانتها فنًّا له خصوصيّته وأصوله. ومنذ سنوات قليلة، بدأ هذا الفنّ يعود بقوّة ليأخذ مكانه فنًّا فرجويًّا في منطقتنا العربيّة، من خلال المهرجانات المختلفة، خاصّة في المغرب العربيّ.

أمّا النساء فمارسن فنّ الحكي في البيوت، وخلال الجلسات العائليّة، وسردن حكايات فيها كلّ التفاصيل اليوميّة منذ الولادة حتّى الموت (كناعنة ومهوّي، 2001). الجميل في الأمر أنّ أغلب مَنْ يحترف فنّ الحكي في منطقتنا العربيّة حاليًّا، هنّ من النساء!

«الحكواتي» من الفعل حكى، وحكى الشيء أتى بمثله، وشابهه. وحكى عنه الحديث نقله، فهو حاكٍ والجمع حكاة (المعجم الوسيط). والحكّاء الكثير الحكاية، ومَنْ يقصّ الحكاية في جمع من الناس (المعجم الوسيط). من هنا نجد أنّ «الحكواتي» هو الحكّاء (الأصل في القياس اللغويّ)، وهي كلمة دخيلة دخلت إلى اللغة في العصر الحديث، وبُنِيَتْ على غير قياس، وقياسها في اللغة حكّاء، لكنّها مقبولة لشيوعها في الاستعمال، واتُّخِذَتْ لتدلّ على الشخص الّذي يحكي الحكايات الشعبيّة في التجمّعات.

حسب «لسان العرب» ثمّة وجود لمؤنّث الراوي وهو الراوية، لكن لا وجود لمؤنّث الحكّاء «حكّاءة»، وأمّا كلمة «حكواتيّة» فلا وجود لها ألبتّة.

كانت مهنة الحكواتي عبر التاريخ حكرًا على الرجال، وغالبًا ما سردوا السِّيَر الشعبيّة مثل «السيرة الهلاليّة»، ولجمهور من الرجال فقط، أمّا النساء فمارسن فنّ الحكي في البيوت، وخلال الجلسات العائليّة، وسردن حكايات فيها كلّ التفاصيل اليوميّة منذ الولادة حتّى الموت (كناعنة ومهوّي، 2001). الجميل في الأمر أنّ أغلب مَنْ يحترف فنّ الحكي في منطقتنا العربيّة حاليًّا، هنّ من النساء!

 

«حكاياتي»

 كنت محظوظة، وما زلت، لأنّي ورثت موهبة فنّ الحكي عن والدي رحمه الله، وقد رافقتني حكاياته منذ ولادتي؛ إذ كان يسردها لأخي وأنا كنت أسمعها بمعيّته، لكنّ والدي لم يحترف فنّ الحكي، واحترف التدريس مهنة، ولا أظنّه كان سيشجّعني على احترافه؛ لأنّه كان من مناصري التحصيل العلميّ بعيدًا عن الفنّ. وحقًّا لم أجرؤ على ممارسة فنّ الحكي إلّا بعد وفاة والدي، معلّمي الأوّل، ولاحقًا كنت محظوظة  جدًّا بلقائي بعض المدرّبين العرب والأجانب المميّزين المحترفين، الّذين أثرَوا تجربتي، وأسهموا في صقل موهبتي.

احترفت هذا الفنّ صدفة قبل 20 عامًا، وأقول غير مدّعية إنّ الحكاية اختارتني، وتركت غير نادمة دراستي للدكتوراه في مجال التربية ومناهج التعليم للطفولة المبكّرة. بدايةً لم يكن الأمر معهودًا في بلادنا وفي أغلب البلاد العربيّة، ما عدا المغرب وتونس الّتي شاركتُ فيها أوّل عروضي الاحترافيّة منذ عام 2005، ولاحقًا شاركت في العديد من مهرجانات ومؤتمرات ومعارض كتب، حول فنّ الحكي، مقدّمة عروضًا ومحاضرات أكاديميّة.

مع بحثي اليوميّ عن حكايات جديدة لتصير «حكاياتي»، بحثت عن كبار السنّ في بلادنا، وسمعت منهم حكايات، وأعدت سردها للأطفال في أنحاء البلاد مباشرة، وعبر السكايب في غزّة. وعلى إثر هذه التجربة أُنْتِج فيلم «الحكواتيّة» الوثائقيّ عن هذه التجربة عام 2013، وعُرِضَ في رمضان عام 2014...

لاحقًا احترفت التدريب، ودرّبت أوّلًا في تونس، الّتي زرتها 13 مرّة، حيث درّبت فيها عشرات الحكواتيّين من مختلف أنحائها، وفي سيوة مصر، وبعدها في رام الله، حيث درّبت أوّل مجموعة حكواتيّين في فلسطين، ولاحقًا درّبت في دول عربيّة ودول أوروبّيّة، وفي جنوب إفريقيا واليابان، وهو ما كشفني على مخزون كبير من الحكايات. وكنت أيضًا في المجموعة المؤسِّسة لمجموعة «حكايا» الأردنّ عام 2005.

في بداياتي، وفي عروضي الأولى للأطفال والبالغين، سردت حكايات شعبيّة فلسطينيّة، وشاركت الأطفال خاصّة في أهازيج شعبيّة سمعتها من والدي، وأمّا البالغون فشاركتهم الموسيقى والأغاني الشعبيّة، إضافة إلى الرقص الشرقيّ.

 تدريجيًّا، ومع بحثي اليوميّ عن حكايات جديدة لتصير «حكاياتي»، بحثت عن كبار السنّ في بلادنا، وسمعت منهم حكايات، وأعدت سردها للأطفال في أنحاء البلاد مباشرة، وعبر السكايب في غزّة. وعلى إثر هذه التجربة أُنْتِج فيلم «الحكواتيّة» الوثائقيّ عن هذه التجربة عام 2013، وعُرِضَ في رمضان عام 2014. وبالطبع تجوالي في أنحاء المنطقة العربيّة وأوروبّا منحني الفرصة للقاء حكواتيّين سمعت منهم حكايات أخرى أثّرت في تجربتي بشكل مميّز.

 

أيّام الحَجْر الأولى

مع بداية الحَجْر، وجدت نفسي مثل أغلب الناس في أنحاء المعمورة، مُجْبَرة على البقاء في المنزل. في البداية تعاملت مع الأمر كإجازة وكفرصة لتعزيل شقّتنا وتنفيذ مشاريع كتابيّة عالقة، والبقاء ساعات أكثر مع زوجي وابني. لكن بعد مرور شهر من الحجر، دخلت في كآبة مخيفة بسبب انقطاعي عن رؤية ابنتي وأحفادي وزيارة أمّي، إضافة إلى إلغاء كلّ العروض الحيّة الّتي كانت مبرمجة لشهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل)، وبدأت أستوعب أنّ الوضع لن يعود كسابق عهدي به.

ما أنقذني من الكآبة نهاية آذار (مارس) كان ربيع بلادنا، الّذي أتى بكلّ عنفوانه في أعقاب شتاء غزير الأمطار، ولحسن حظّي أنّ شقّتنا تقع على مقربة من قمّة تلّة كرمليّة، تقابل البحر المتوسّط، فكان لنا الحظّ الأوفر من كلّ هذا الجمال، وكان الوقت متاحًا لأستمتع بالربيع، فوجدت نفسي تلقائيًّا وبلا أيّ تخطيط مسبق، أرتّب أمور المنزل في ساعات الصباح؛ ليتوفّر لي الوقت ظهرًا لأجول في أنحاء حارتي، وأبثّ حكاياتي في بثوث (Live) على صفحتي في فيسبوك. الأمر كان بمنزلة طوق نجاة بالنسبة إليّ، خاصّة أنّه كان لحكاياتي صدًى جميل في قلوب متابعي الصفحة؛ وهذا أدّى إلى توجّه الكثير من المؤسّسات العامّة والخاصّة من أنحاء المنطقة العربيّة ومن بلادنا؛ لأسرد حكاياتي ولأقوم بورشات تدريبيّة في فنّ الحكي عبر تطبيقَي  Instagram LiveوZoom. وكتب صحافيّون عدّة، منهم أصدقاء افتراضيّون من أنحاء المنطقة العربيّة وكندا، تقارير صحافيّة مكتوبة ومصوّرة عن تجربتي بشكل عامّ، وعن حكاياتي في زمن الكورونا، وهذا كشف تجربتي وحكاياتي للمزيد من الأشخاص والمؤسّسات، وهو ما شجّعني وبقوّة على الاستمرار في سرد الحكايات عبر التطبيقات المختلفة، بدون تردّد أو خوف، ذلك الخوف الّذي لازمني في أوّل عروضي الافتراضيّة.

الّذي حصل وفاجأني بشدّة أنّي تعاملت مع الكاميرا بكلّ سهولة، واعتبرتها جمهوري خلال العروض المباشرة، أمّا في ورشات التدريب فكنت أرى أغلب المشاركين عبر Zoom، لكن هذا فرض عليّ أن أغيّر من تقنيّات التدريب الّتي كنت أعتمدها سابقًا...

عندما تلقّيت أوّل دعوة لعرض افتراضيّ، بداية نيسان (أبريل)، من «مكتبة قمر» في القطيف - السعوديّة، كنت متوتّرة بشأن تقنيّات التسجيل، لكن كنت مرعوبة أكثر بأنّي لن أستطيع التواصل البصريّ والحسّيّ مع الجمهور. لكنّ الّذي حصل وفاجأني بشدّة أنّي تعاملت مع الكاميرا بكلّ سهولة، واعتبرتها جمهوري خلال العروض المباشرة، أمّا في ورشات التدريب فكنت أرى أغلب المشاركين عبر Zoom، لكن هذا فرض عليّ أن أغيّر من تقنيّات التدريب الّتي كنت أعتمدها سابقًا، وأحاول أن أستعمل كلّ التقنيّات التكنولوجيّة لأعوّض ولو قليلًا عن غياب التواصل المباشر.

أرى أنّ أهمّ الأسباب لتأقلمي أنّ سرد الحكايات يلبّي عندي حاجة وجوديّة ضروريّة جدًّا؛ لأنّ حكاياتي ملجئي الآمن الّذي يحميني من وجع الحياة، علاوة على أنّي شغِفة جدًّا بحكاياتي أو "مغرومة فيهن"، على حدّ قول الحكواتي جهاد درويش، وأحبّ أن أشاركها مع أكبر عدد من الناس لتبقى في قلوبهم، ويعيدوا سردها بأسلوبهم لمزيد من الناس.

 

تطوير الأدوات والتقنيّات

مهمّ أن أذكر أنّه كان ثمّة مئات من عروض الحكي الافتراضيّة، عربيًّا وعالميًّا، عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ، إضافة إلى لقاءات وورشات عبر Zoom وغيره؛ وهو ما أتاح للجميع التواصل مع عدد لا يُسْتَهان به من زملاء المهنة، وتعرّف المزيد من التجارب في عالم هذا الفنّ الجميل، وهذا حسب رأيي من أهمّ ما حصل لنا نحن الفنّانين ولفنّ الحكي، والأهمّ أنّ هذا كان إثباتًا لجميع المشكّكين في استمراريّة وجود الحاجة إلى الحكايات، في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعيّ، ولكن...

من أهمّ ما ندرّب عليه في ورشات فنّ الحكي، وهو من أساسيّات هذا الفنّ، أهمّيّة التواصل البصريّ مع الجمهور، وننسى أنّه بالإضافة إلى التواصل البصريّ ثمّة التواصل الحسّيّ والسمعيّ. خير دليل على ذلك هوميروس*، الشاعر اليونانيّ الأعمى وأحد الرواة الأوائل عبر التواصل المباشر في تاريخ البشريّة.

وسائل التواصل المباشر مهمّة وضروريّة، أوّلًا للحكواتي، كونه من خلال تواصله البصريّ أو الحسّيّ السمعيّ مع الجمهور، يستطيع أن يجسّ نبض جمهوره، ويستمدّ طاقة وحيويّة تؤثّران إيجابًا أو سلبًا في إيقاع حكايته، وفي نجاحه في جذب الجمهور ليستمتع بالحكي. ثمّ إنّ التواصل المباشر، ولا سيّما في عروض الأطفال، يتيح للحكواتي أن يشرك جمهوره في ترديد المقاطع الّتي تتكرّر في الحكاية، ما يحافظ على يقظة الأطفال، ويساعدهم على حفظ الحكاية وإعادة سردها لاحقًا.

أمّا عن الجمهور، فإنّ التواصل المباشر يعطيه الإمكانيّة للتفاعل الفوريّ مع الحكاية، والتجاوب مع الحكواتي وحكايته بشكل مباشر، والتدخّل في إحداث الحكاية إذا سمح له الحكواتي بذلك.

 

أمّا عن الجمهور، فإنّ التواصل المباشر يعطيه الإمكانيّة للتفاعل الفوريّ مع الحكاية، والتجاوب مع الحكواتي وحكايته بشكل مباشر، والتدخّل في إحداث الحكاية إذا سمح له الحكواتي بذلك.

الّذي حصل معنا نحن الحكواتيّين، خاصّة الّذين هم مثلي لا يملكون أيّ خلفيّة في عالم الدراما والتمثيل، أنّنا عزّزنا أدواتنا الدراميّة، ورحنا نتخيّل جمهورًا غير موجود، ونسجّل حكاياتنا مسبقًا أو نحكيها ببثّ مباشر، وفي الحالتين تكون الكاميرا قبلتنا؛ وهذا لأنّه دائمًا كان ثمّة نقاط تشابه وتقاطع بين الممثّل والحكواتي، ولذلك أصبح الحكي من خلال التطبيقات المختلفة، أقرب إلى التمثيل السينمائيّ أو التلفزيونيّ الّذي يُنْجَز بلا جمهور، ويعتمد فيه الحكواتي على تفاعله وأحاسيسه تبعًا للنصّ الّذي يحفظه عن ظهر قلب، بلا إمكانيّة لأيّ ارتجال يفرضه عليه وجود الجمهور وتفاعله.

ما عوّض قليلًا عدم وجود الجمهور وتفاعله المباشر كان وجود المشاركين في عروض Zoom؛ حيث يظهر تفاعلهم وتعبير وجوههم، وهذا يعوّض ولو قليلًا التفاعلَ المباشر مع الجمهور.

هذه التغيّرات فرضت على الحكواتي تبنّي تقنيّات جديدة مختلفة، والأهمّ فرضت على مدرّبي فنّ الحكي أن يعيدوا النظر في أغلب ما دُرِّبوا عليه سابقًا، والأخذ بالاعتبار، وبقوّة، التدريب على تقنيّات العروض الافتراضيّة، حتّى لو عادت الحياة لسابق عهدها كما كانت قبل هذا الزمن الأغبر؛ لأنّ العروض الافتراضيّة الّتي اكتشفناها في زمن كورونا ستستمرّ حتّى لو زالت الجائحة، خاصّة في منطقتنا العربيّة، حيث إنّ أغلبنا محرومون من الوصول إلى الكثير من الدول العربيّة؛ لأسباب أهمّها أنّنا في حاجة إلى تأشيرة دخول غالبًا ما يكون الحصول عليها شبه مستحيل، وثانيًا تكاليف السفر الباهظة، وانعدام الدعم والتمويل للمشاريع الفنّيّة من قِبَل المؤسّسات الداعمة.

وحكايتي حكيتها وبقلوبكم خبّيتها، رغم أنف التباعد الاجتماعيّ والكِمامات.

..........

إحالات:

* المعجم الوسيط.

* شريف كناعنة وإبراهيم مهوي، قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبيّة الفلسطينيّة، ط1 (مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2001).

* كان هوميروس شاعرًا راويًا/ حكواتيًّا يونانيًّا، عاش في القرن الثامن قبل الميلاد. يقال إنّه مَنْ ألّف ملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة»، كان يسردهما شفاهيًّا برفقة العزف على الآلة الوتريّة «الليرة»، وهو يجول في أنحاء بلاده.

 

 

دينيس أسعد

 

 

 

حكواتيّة ومدرّبة على فنّ الحكي، وباحثة في أدب الأطفال.